مشهد البداية والنهاية معاً


دخل الرجل إحدى العيادات الطبية المُرخصة من الدولة، في صحبة امرأة أنيقة يبدو من مجريات المشهد أنها زوجته، ومعهما رجلٌ آخر يبدو عليه التأثر الشديد؛ جلسوا جميعاً يستمعون لشرح الطبيبة التى كانت فى غاية الرقة والتعاطف، وهي تمسك بكأسٍ صغير يحتوى على سائلٍ ما، وتخبر ذلك الرجل أن هذا الدواء سوف يقوم بالمهمة المطلوبة بشكلٍ جيد، دون الشعور بأي ألمٍ أو معاناة، وحذرته بشكلٍ لطيف وبكلماتٍ منمقة أنه إذا وافق على شرب هذا الدواء، فإنه سوف ينام إلى الأبد، ولن يستطيع الرجوع إلى الحياة مرة أخرى.
 فهز الرجل رأسه متفهماً، وتمتم بكلمات مقتضبة بما يعنى فهمه وموافقته، فناولته الطبيبة الكأس، وقبل أن يشربه شكر زوجته والرجل الآخر على تفهمهما لرغبته، وعلى اصطحابه إلى العيادة، فربتت زوجته على يده في حنوٍ وتأثر، بينما كان الرجل الآخر يمسح دمعة يتيمة باغتته، ثم قرَّب الرجل المسن كأس الدواء من فمه، وشربه دفعةً واحدةً، وهنا اقتربت منه الطبيبة، وأحاطته بذراعها في رفق مربتةً على كتفه وهي تطمئن زوجته ورفيقها، أنه لا ألم لديه الآن هو بخير، وبعد ثوانٍ سيتوقف القلب عن النبض في هدوء، وحينما انتهت من كلماتها المتعاطفة كان الرجل قد لفظ أنفاسه الأخيرة.
مهلاً عزيزى القارئ: فما قرأته في السطور السابقة، ليس مشهد النهاية في أحد الأفلام السينمائية، إطلاقاً، لكنه مشهد حقيقى من الحياة التى نعيشها معاً على هذا الكوكب البائس؛ إنه مشهد فى أحد العيادات الطبية فى دولة أوروبية توصف بالتحضر والرقى، مشهد حقيقي لرجل مسن ملَّ من حياته ويئس منها، فقرر أن ينهيها باللجوء إلى إحدى العيادات المتخصصة في الموت الرحيم  كما يسمونه تفلسفاً، فبدلاً من أن يشنق نفسه بحبلٍ، أو يقطع شرياناً رئيساً في جسده، أو يتناول حبوباً، قرر أن يَرفق بنفسه ويرحمها من ذلك الألم ويختار الوسيلة الأسهل للانتحار بدونِ ألم في تلك العيادات المتخصصة.

تصاعد معدلات الانتحار فى الوطن العربى:
الغرب: ياله من عالمٍ بائسٍ حقاً، فمع كل تقدمٍ يُحرزونه فى مناحى الحياة، لابد لهم من إحراز هدف في مرمى الإنسانية يمزقها أشلاءً، ويرجع بها خطوات مروعة للوراء، كيف لهم بهذه السهولة أن يتفننوا في تزيين الانتحار لفظاً ومضموناً كي يبدو شيئاً عادياً مألوفاً، يفعله الشخص بينما يجلس على كرسىٍ وثير في كامل أناقته، مصطحباً زوجته فى كامل زينتها وكأنما يذهبان لقضاء أمسيةٍ ممتعة، كيف لهم أن يُيسروا للناس أمر الانتحاروإنهاء الحياة وإزهاق الروح بهذه الوسائل اللاإنسانية؟

حقاً لم أجد في نفسي أى معنى حين شاهدت ذاك المقطع البائس سوى معنى الحمد؛ هتفت من أعماقى: أنِ الحمد لله على نعمة الإسلام؛ الحمد لله أن خلقنا الله مسلمين، دون إرادةٍ منا ولافضل، الحمد لله أن عظَّم فى نفوسنا حرمة النفس التى خلقها ووحده من يحق له التصرف فيها.
لكن ورغم كوننا مسلمين بدأت تظهر وللأسف بعض حالات الانتحار فى بلداننا العربية والإسلامية، حيث وصلت نسبة المنتحرين العرب إلى 4 في كل 100 ألف منذ بداية الألفية الجديدة ويُذكر أن كل حادثة انتحار ناجحة يقابلها 20 محاولة انتحار فاشلة، وفقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، وتعد الدول العربية الأربع الأولى في نسب الانتحار هي: مصر، والمغرب، وتونس، والجزائر، بينما تأتي دول لبنان وسورية والخليج في أسفل القائمة، ووفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية، فقد جاءت السودان في أعلى نسب نمو عدد الحالات بنسبة 17.2 حالة في كل 100 ألف، وفي آخر ترتيب الدول العربية جاءت كل من السعودية وسورية متساويتين بنسبة بلغت 0.4.

حُرمة الانتحار والنهى عنه:
مؤكدٌ أننا نتألم كثيراً حين يحدث ذلك لشخص نطق الشهادتين يوماً ما، وعرف حرمة قتل النفس بالانتحار، لكنه ضعف في لحظةٍ شيطانيةٍ أمام نفسه وغوايتها وشيطانه ووسوساته اللعينة وظروفه التى أحاطت به فأهلكته، لكن يجب أن نعى جميعاً وندرك أن الانتحار أمرٌعظيم؛ عظيمٌ عِظَم مبارزة الله عز وجل ومعاندته،عنجندب بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرح فجَزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمتُ عليه الجنة) رواه البخاري ومسلم.
ياالله، ما أصعب هذا التعبير الإلهى؛ بادرنى عبدى بنفسه، كيف لذاك الإنسان الضعيف أن يبادر الله عز وجل فيزهق تلك النفس التي منحه الله إياها ابتداءً دون فضلٍ منه ولا مقدرة؛ كيف لذاك الإنسان أن يتصرف فيما لا يملك ويُعطى نفسه حقاً ليس له.
يجب أن نعي جميعاً وندرك أن الانتحار أمرٌ خطير، خطير خطورة الخلود فى نار جهنم والعياذ بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) رواه البخاري ومسلم، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قتل نفسه بشيءٍ في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.

لماذا ينتحر البعض وما دورنا نحن؟
بالتأكيد هناك أسباب كثيرة ومتداخلة للدوافع التي تودى بالبعض إلى ذلك الفعل؛ أسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية؛ ويظهر ذلك واضحاً لمن تابع بعض هذه الحوادث في بلداننا العربية خلال السنوات القليلة الماضية، وهو أمر قد قُتل بحثاً، ولكنني أتكلم هنا عن الدور المجتمعي لكل فرد منا، الدور التوعوى والإنساني، من التفقد والاهتمام والملاحظة للدائرة المجتمعية حولنا، أذكر حادثة منذ ما لايتجاوز العامين، حيث انتحرت إحدى الفتيات في بلد عرب، فوجدنا مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالحديث عنها، وعن المعاناة النفسية التي كانت تعيشها قبيل انتحارها.
 وبدأ أصدقاؤها يتحدثون عن التغيرات السلوكية التي طرأت عليها، وعن سوء حالتها النفسية والمشكلات الاجتماعية والمادية التي كانت تمر بها، بل تحدث أحدهم أنها أخبرته بتفكيرها في الانتحار فاعتقد أنها تمزح، ثم فاجأت الجميع بإقدامها على الانتحار؛ وقد كان كثيرٌ من أصدقائها قد ابتعدوا عنها، وألقوا عليها باللوم بسبب تغيراتها السلوكية، فباتت فى عزلةٍ شديدةٍ وفق ماتحدثوا به بأنفسهم على صفحاتهم، إذن هنا كان يجب لأصدقائها والمقربين منها أن يكون لهم دور إيجابي لاحتوائها والتخفيف عنها، وتفقدها والحديث معها ومساعدتها في إيجاد حلول لمشكلاتها التي يئست هي من حلها فكان ماكان. قطعاً كان ذلك أفضل بكثير وأقل تكلفة من أن يعتزلها الجميع ويهملونها حتى وصلت لمرحلة الانتحار.
إذن بعودتنا للمعانى الإنسانية اليسيرة والتي ربما غابت فى زحام الحياة ومشكلاتها قد نستطيع التخفيف من وطأة بعض الظواهر المجتمعية، تفقد بعضنا البعض والاستماع لمن لديه مشكلة ما ومحاولة إيجاد علاج لها، معانى نجدة الملهوف، وإقالة العثرات، والإيجابية والتراحم؛ كلها من مبادئ ديننا الحنيف ومن سمات الإنسانية وهي بالفعل صمامات أمان للمجتمع.

قوة الإيمان وقوة الإرادة وفهم دورنا فى الحياة قواربُ نجاةٍ لنا
كلُّ إنسانٍ يمر في حياته بتحدياتٍ ومشكلات قد تجعله فاقداً لاتزانه، وربما يفقد أىُّ معنىً جميلٍ للحياة، وهنا يأتي دور الإيمان بالله والإرادة والعزيمة؛ لامشكلة من التوقف فترة لكن يجب أن يكون توقفاً لالتقاط الأنفاس، ثم الانطلاق من جديد، فدوام الحال من المحال، وعليه فلن تدوم المشكلات والتحديات، مؤكدٌ سيكون لها نهاية فترحل كما أتت، لكن أن نمضى في إيجاد حلول لمشكلاتنا ومواجهتها فهذا هو الأهم، أن نُذِّكر أنفسنا دائماً أن وجودنا في هذه الحياة مؤقتٌ وأن الله عز وجل خلقنا لهدف وغاية ولم يخلقنا لنشقى، بل خلقنا لنكون خلفائه في الأرض نعمرها ونسعى فيها ونجتهد ونستمتع بها أيضاً، قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]، والتحديات التي نواجهها جزء من غاية خلقنا، بل هي تعليم واختبار لنا، ووجودنا هنا على هذه الأرض إنما لرسالة يجب أن نعيها ونفهمها، فنبحث عن النجاح في كل خطوة، نقوم إذا تعثرنا ونشحذ همتنا إذا فترت، إذاً لو ركز كل منا على موقعه في الحياة واستوعب دوره وأداه، وتسلح بإيمانه بالله وإرادته القادرة على الوقوف في وجه ضعفه وانكساراته سيجد حتماً عوناً من الله على تحدياته قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل(97).
 لنعمل إذن ولنجتهد في فهم وتعلم مهارات التعامل مع الحياة؛ فنتقن لغة جديدة أو نتعلم كيفية إدارة الوقت، وتحقيق الأهداف، والبحث عن الفرص ولنكافئ أنفسنا ونصفق لها عند تحقيق إنجازٍ ما، ولو كان يسيراً، ولننشر هذه الروح فيمن حولنا، وفي الأطفال الصغار؛ حتى يشبوا على القوة النفسية وعدم الانهزام، فلا يأس ولا قنوط مع الإيمان والإرادة.

تم نشر هذا المقال لي في موقع ساسا بوست في 16 سبتمبر 2016 

تعليقات