أليست الكعبة بكائن غير حي؟! لماذا نطوف حولها ياأمي؟





    هكذا باغتتني ابنتي ذات الثمانية أعوام بهذا السؤال، في براءة وتلقائية وهي تنظر إلي شاشة التلفاز حيث أفواج الحجيج يطوفون حول الكعبة المشرفة؛ وقد تبادر السؤال إلي نفسها، إثر شرح معلمة مادة العلوم عن تقسيم الكائنات إلي كائنات حية، وأخرى غير حية.
    وهو سؤال -ومثله الكثير من الأسئلة - علي بساطته وعفويته، يفتح آفاقاً رحبة لمناقشات ثرية حول الكثير من أمور العقيدة، وركائز الإيمان، كما أنه أيضاً وعلي سهولته قد يفتح أبواباً سهلة للشيطان؛ لإدخال الريبة والشك وزعزعة الإيمان لدي من لم يجد إجابات شافية علي مثل هذه التساؤلات. والتي قد تبدو من البديهيات لأمور قد توارثها المسلمون عبر الأزمان، مع بطاقات هوياتهم والتي كُتب فيها الديانة مسلم؛ دون أدنى محاولة من البعض لفهم حكمتها أو الهدف من ورائها.
    وقد يظن بعض الآباء أن الحل في مواجهة مثل هذه التساؤلات خاصة عند الصغار هو تجاهلها، أو علي أحسن الأحوال نصحهم بعدم الخوض في مثل هذه الأمور، وعدم الإكثار من التفكير  لتفويت الفرصة علي الشيطان، وللحفاظ علي نفوسنا من تسرب الشك إليها، ولايدرون أنهم بهذا السلوك يفتحون للشيطان باب الشك علي مصراعيه، ويتركون السائل عُرضة لوساوس الشيطان، وربما لتضليل المشككين في الدين والمدلسين ومن شابههم.
    وأقول ابتداءً إن ديننا هو دين العقل والمنطق، يدعو إلى التدبر، و التفكر والتفكير وإعمال العقل؛ ولقد نزل الوحى أول مانزل بأمر صريح للنبى صلى الله عليه وسلم، كلمة اقرأ له ولأمته من بعده أن: "اقرأ باسم ربك الذى خلق"سورة العلق.
    ولقد فهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم روح هذا الدين، وأنه دين العقل والفهم واحترام الإنسان، وأن هذا الدين يريد أتباعاً يحملونه ويبلغونه في الآفاق، لا أتباعاً يحملهم ويكونون عبئاً عليه؛ فهاهم أهل يثرب يضربون أكباد الإبل لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، فعن جابر بن  عبد الله رضي الله عنهما: «مكَث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكَّةَ سَبْعَ سِنينَ يتتبَّعُ النَّاسَ في منازلِهم بعُكاظٍ ومَجَنَّةَ والمواسمِ بمنًى يقولُ: (مَن يُؤويني وينصُرُني حتَّى أُبلِّغَ رسالاتِ ربِّي)؟ حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيخرُجُ مِن اليَمنِ، أو مِن مِصْرَ فيأتيه قومُه فيقولونَ: احذَرْ غُلامَ قريشٍ لا يفتِنْك ويمشي بيْنَ رِحالِهم وهم يُشيرونَ إليه بالأصابعِ حتَّى بعَثَنا اللهُ مِن يَثرِبَ، فآوَيْناه وصدَّقْناه، فيخرُجُ الرَّجُلُ منَّا ويُؤمِنُ به ويُقرِئُه القرآنَ، وينقلِبُ إلى أهلِه فيُسلِمونَ بإسلامِه حتَّى لم يَبْقَ دارٌ مِن دُورِ الأنصارِ إلَّا فيها رَهْطٌ مِن المُسلِمينَ يُظهِرونَ الإسلامَ، ثمَّ إنَّا اجتمَعْنا فقُلْنا: حتَّى متى نترُكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُطرَدُ في جبالِ مكَّةَ ويخافُ، فرحَل إليه منَّا سبعونَ رجُلًا حتَّى قدِموا عليه في المَوسِمِ، فواعَدْناه بَيْعةَ العَقبةِ فاجتمَعْنا عندَها مِن رجُلٍ ورجُلَيْنِ حتَّى توافَيْنا فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ علامَ نُبايِعُك؟ قال: (تُبايِعُوني على السَّمعِ والطَّاعةِ في النَّشاطِ والكسَلِ، والنَّفقةِ في العُسرِ واليُسرِ، وعلى الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وأنْ يقولَها لا يُبالي في اللهِ لَومةَ لائمٍ، وعلى أنْ تنصُرُوني وتمنَعوني إذا قدِمْتُ عليكم ممَّا تمنَعونَ منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم ولكم الجنَّةُ). فقُمْنا إليه فبايَعْناه، وأخَذ بيدِه أسعدُ بنُ زُرارةَ وهو مِن أصغَرِهم فقال: رُويدًا يا أهلَ يَثرِبَ، فإنَّا لم نضرِبْ أكبادَ الإبلِ إلَّا ونحنُ نعلَمُ أنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنْ إخراجَه اليومَ منازعةُ العرَبِ كافَّةً، وقَتْلُ خيارِكم وأنْ تعَضَّكم السُّيوفُ، فإمَّا أنْ تصبِروا على ذلك وأجرُكم على الله،ِ وإمَّا أنتم تخافونَ مِن أنفسِكم جُبنًا فبيِّنوا ذلك فهو أعذَرُ لكم فقالوا: أمِطْ عنَّا فواللهِ لا ندَعُ هذه البَيْعةَ أبدًا، فقُمْنا إليه فبايَعْناه فأخَذ علينا وشرَط أنْ يُعطيَنا على ذلك الجنَّةَ.(رواه الإمام أحمد، وابن حبان، والطبراني، وغيرهم. وحسنه النووي، والهيثمي، والألباني).
    علام نبايعك؟!! هكذا تسائلوا، يريدون أن يفهموا ماهي التزاماتهم  حال دخولهم في هذا الدين الجديد؟ فيكون  إسلامهم عن بينة ويقين، ورغم ذلك يعترضهم سيدنا أسعد بن زرارة ذاك الشاب الواعي، والذي أراد أن يتثبت من إدراكهم لحجم وخطورة قرارهم، ومايليه من تبعات. فكان ردهم والله لانذر هذه البيعة ولا نستقيلها.  يا الله ما أروعهم!! ضربوا لنا أروع الأمثال في تطبيق روح الدين ومقاصده.
    إذن لاينبغى لنا بحال أن نتجاهل تساؤلات حائرة قد تصدر من أطفالنا، أو من أى شخص يضع ثقته بنا، فليس من العيب أن نسأل لنفهم ونتعلم، ولكن العيب كله في أن يجد الإنسان مايتلجلج في صدره، وما قد يُفسد عليه دينه، ومع ذلك يظل صامتاً دون البحث عن إجابات شافية لتساؤلاته؛ خوفاً من ردة فعل الآخرين، أو تحرجاً أو أياً ماكان.
    أعودُ لصغيرتى وسؤالها البرئ، والذي بالرغم من إجابتي عنه، بما أظن أنه بإذن الله كافٍ لتفهيمها وتوضيح الأمور لها، لكنه أثار فى نفسي الكثير من الترقب والاهتمام؛ فهو سؤال قد يتبعه أسئلة أخرى من الفصيلة نفسها، وحينها بالطبع لامفر من الإجابة. هو سؤال إذن ينبئ بما بعده، ويلفت نظر كل مربي إلى أهمية التعرض لأمور العقيدة وترسيخها لدى الصغار، وألا يكون التعرض لتلك الأمور مجرد ردة فعل أو إجابة عن سؤال عابر.
    حين سألتنى صغيرتى عن سبب الطواف حول الكعبة؟ رغم كونها كائنا غير حي على حد تعبيرها الطفولي، قلت لها: وهل إذا كانت الكعبة كائنا حيا، أيصبح الطواف حولها مقبولاً؟!
    بالطبع لم أطرح عليها السؤال لأنتظر إجابتها، لكنه كان للفت نظرها إلى المعنى الذي أريدها أن تستوعبه، وهو  (رمزية المكان، مع تمام التسليم لله سبحانه).
    أوضحت لها أن الكعبة هي بيت الله فى الأرض، وأننا نذهب إليها ليس لأجلها ككيان مادي، ولكن لأنها ترمز إلى عبادتنا لله، وطاعتنا له وامتثالنا لأمره سبحانه. وأن الله عز وجل هو الذي أمرنا أن نشد الرحال إليها إن استطعنا لذلك سبيلا، وقد أمر سبحانه سيدنا إبراهيم منذ القدم برفع قواعد البيت، وتهيئته ليكون وجهة وقبلة للناس، وأن الكعبة تمثل لنا مكاناً مقدساً، نتجه صوبه بقلوبنا  كل يوم خمس مرات في صلواتنا، فهي قبلتنا التي أمرنا الله عز وجل أن نول وجوهنا شطرها. وأن الطواف بمثابة تعظيم وتسليم واستسلام لله عز وجل؛ فنحن نطوف حول الكعبة تعبداً لله سبحانه، لانطوف من أجل الكعبة ذاتها كبناء، ونحن نعظم الكعبة لأنها بيت الله في الأرض، وقبلتنا التي شرعها الله لنا، فنحن نتجه إليها في صلواتنا امتثالاً لأمر الله.
    إذن خلاصة الأمر أن الكعبة بوصلتنا في التسليم لأمر الله عز وجل، والاستسلام له وأن الطواف عبادة مثل الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.
    وهو المعنى الذى فهمه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم واستوعبوه جيداً ؛ فها هو الفاروق عمر بن الخطابرضى الله عنه يخاطب الحجر الأسود قائلاً: "والله إني أعلم أنك حجر لاتضر ولاتنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ماقبلتك"متفق عليه.
    إذن سيدنا عمر هنا يدرك تماماً أن الهدف والغاية من استلام الحجر الأسود وتقبيله، هو التعبد لله والتسليم لأمره، وأن الله عز وجل يختار لنا ويحدد لنا كيف نعبده كي تُقبل منا تلك العبادات، لانحددها نحن وفق أهوائنا، وهو سبحانه الذي سن لنا مناسك الحج والعمرة، وشرع لنا الطواف كعبادة عظيمة، وكركن من أركان الحج والعمرة لايتمان بدونه، وحدد لنا سبحانه كيفيته ووقته وعدد أشواطه بدقة شديدة، لايجوز لنا التعديل فيه أو الزيادة أو النقصان، ومن لم يلتزم في نسكه بتلك المحددات عن عمد، فقد يعرض نفسه لفساد عبادته أو عدم قبولها.
    إلى هنا انتهى حوارى مع صغيرتي،  وبدا لي أنها اقتنعت والحمد لله،  واطمئنت إلى ماشرحته  لها من نقاط، لكن لم ينته الأمر عند هذا الحد بالنسبة لي؛ فمثل هذه التساؤلات من الصغار تُلقي على عاتقنا مسؤولية كبيرة في ضرورة تسليح أنفسنا بما يكفى من المعلومات وأساليب الحوار والإقناع للإجابة عنها، بالطبع ليس مطلوباً منا أن نتحول إلى فقهاء، أو أن نفتى بدون علم في أمور قد نجهلها؛ ولكن أقول الحد الأدنى من المعرفة بأمور الدين، والبحث والاجتهاد والسؤال عما نجهله؛ حتى نكون ملاذاً لأطفالنا.
           فلايجب بحال أن نتجاهل مثل هذه التساؤلات، أو أن نستنكرها أو نشعرهم بأنها أمور محرمة لايجوز التساؤل فيها أو الحديث عنها، بل نُفسح صدورنا لهم، ونستمع إلى كل مايجول بخاطرهم ونطمئنهم، ونحاول قدر الإمكان الإجابة عن تساؤلاتهم؛ لأن ذلك يساعدهم على التثبت من أمور دينهم، ويحصنهم ضد الشيطان، ويحميهم من المشككين ورفاق السوء بإذن الله تعالى، ليس الآن فقط في طفولتهم، ولكن في المستقبل القريب  حين تكبر عقولهم، ويخرجون للتعامل مع المجتمع بمختلف فئاته.
           لابد كإجراء حماية ووقاية أن نغرس في قلوب أبنائنا  حب الله  عز وجل وتعظيمه ومراقبته، وحب الدينوالاعتزاز والفخر به وتعظيم مناسكه وعباداته، فتصير تلك الأمور لديهم عادة وجزءا مألوفا وطبيعيا من حياتهم، حتى إذا شبوا عن الطوق، واتسعت مداركهم، تحولت تلك العادات التي اكتسبوها صغاراً وأدوها بشكل روتيني  إلى عقائد  راسخة،  وعبادات سليمة، ونهج واضح وثابت لحياتهم .
    ولابد أيضاً أن يقترن فى كلامنا الشرح العقلانى للأمور المرتبطة بالدين والعقيدة، مع الشق الروحي والجانب الغيبي من التسليم لأمر الله سبحانه، والإيمان به والاستسلام لحكمته حتى وإن غابت عنا الحكمة من بعض الأمور، أو عجزت عقولنا القاصرة عن فهم قدرة الله سبحانه وحكمته في تسيير الكون.
    فنوضح لهم أن التعامل مع الله جل وعلا، لا ينبغى بحال أن يخضع لمنطق وآليات التعامل نفسها مع البشر، فهو جل في علاه متفردٌ ليس كمثله شيء، هو خالق الكون من عدم، وهو القادر المقتدر الحكيم الخبير، لايشغله مخلوق عن آخر، ولا تختلف عليه اللغات، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وبالتالي فإن ذلك الفهم  أيضاً ينسحب على إيماننا وتسليمنا واستسلامنا له سبحانه؛ في النسك والعبادة والإيمان والتسليم بالغيب والقدر.
    فيصبح الطفل منذ نعومة أظفاره، متوازناً مابين المادة والروح، مابين عقله وقلبه، مابين الفهم والتسليم، مابين التفكير والاستسلام، مابين تساؤلاته المشروعة وإيمانه الراسخ

    تعليقات