فلما أسلما وتله للجبين



في بقعةٍ ما، بعيدة بُعد الزمانِ والمكان، تقع تلك البقعة من الصحراء الممتدة التي شدت إليها أمنا هاجر الرحال مع وليدها؛ حيث تكونت وتشكلت منظومة التسليم المطلق والاستسلامالتام؛تسليمُ القلبِ والعقلِ والمنطق، واستسلامالوجهة والفؤاد والروح، الاستسلام والتسليم عن اقتناع تام واختيار واضح لا لبس فيه ولاشك، ليس إجباراً ولا ضعفاً، بل هو القوة المطلقة والإرادة الصلبة التي تجاوزت مشاعر الفطرة ونداء القلب، إلى صوت العقل والمبدأ والقضية.
          إنه الأب أبو الأنبياء إبراهيم وابنه عليهما السلام، الأب الذى صال وجال في ذلك الكون بحثاً عن الحقيقة، فرفض عبادة الشمس والقمر والكواكب، فضلاً عن التماثيل التي عبدها قومه، رفضهم جميعاً مع حوار العقل الذي دار بينه وبين نفسه، وحوار الحرق الذي دار بينه وبين قومه، رفضهم جميعاً حتى وصل بعقله إلى إله الكون سبحانه. ثم كان الانطلاق الكبير نحو القضية الكبرى التي عاش لها وبها، القضية التي نذر لها حياته ومعه زوجته وابنه يدعمانه ويسيران معه على ذات الطريق، القضية الكبرى التي تبناها وأسس لها، ووضع لها القواعد تزامناً مع رفعه لقواعد البيت العتيق.
قضيته التي هي بالأساس قضية الإنسانية؛ القضية التي كانت نقطة تحول فى مسار الإنسانية البائسة حينها؛ حيث خرج سيدنا إبراهيم عليه السلام من مدينته بابل صرح الحضارة والتقدم والرقى العمراني في ذلك الوقت، باحثاً عن الحق والحقيقة، بعيداً عن زيف المدنية الغارقة في طغيانها، ذهب هناك في أبعد نقطة حيث الصحراء، الصحراء وفقط، حيث تأسيس الحضارة الحقيقية والمدنية الباقية؛ القائمتان على الحق والحقيقة، وقوة الإنسان فقط، قوة العقيدة والإيمان والمبدأ لا قوة البنيان والمادية الطاغية.
هناك بدأ إبراهيم عليه السلام حياة الإنسانية الحقيقية؛ بل بدأ في وضع قواعدها وأسسها ومبادئها بمساعدة ابنه الذى طال انتظاره، رفعا القواعد من البيت معاً، وأتما البناء على أكمل وجه، ثم جاءت لحظة الحقيقة، لحظة الاختبار الكبير، اختبار المبدأ والعقيدة، اللحظة التي لم يُخْفِ القرآن هولها وشدتها وقسوتها فأسماها الله سبحانه وتعالى (البلاء المُبين):" إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ "(الصافات، آية: 106)، تلك اللحظة التى أوشك فيها إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه مصداقاً لرؤياه التي هي بمثابة الوحي من الله سبحانه، وما أشده من موقف وما أصعبها من لحظة؛ فبعد أن جاءه الابن الذي طالما تمناه وحلم به، ها هو الآن يوشك أن يفقده بالذبح، يوشك أن يفقد الابن الذى بلغ معه السعي، وحمل معه القضية والهم وشاركه البناء خطوةً بخطوةٍ، شاركه البناء والتشييد والإيمان والتسليم، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات، آية: 102)، والمقصود ببلغ معه السعى؛ أي فلما بلغ معه المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه، معينا له على أعماله، فبات عضده وسنده ومعينه، حينها صار لزاماً عليه أن يذبحه، ورغم صعوبة الموقف استسلم إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأمر ربه واستسلم ابنه استسلامالقوى وقال لأبيه: افعل ماتؤمر.
 ما أروعه من ابنٍ تَشَرَّبَ القضية من أبيه، وورث عنه القوة والتسليم لله، فنجح في الاختبار الكبير تماماً كما نجح أبوه، في تلك اللحظة التي أمسك فيها إبراهيم ـ عليه السلام ـ برأس ابنه، أمسك بجبينه كي يذبحه، وجميعنا يدرك صعوبة ذلك، بل استحالته، كيف سيذبح ابنه الذي كان حلمه وصار الآن حقيقةً واقعة، ابنه الذي رأى فيه حلماً يكبُرْ يوماً بعد يوم، رفيق العمر والكفاح والبناء والقضية، ابنه الذي كبر وصار سنده وظهره وأنسه وفخره. وها هو الآن سيذبحه بيديه، لحظة شديدة الصعوبة، كفيلة بأن يقف عندها الزمن باهتاً بلا حراك، في تلك اللحظة القاسية الرهيبة تحديداً نجحا معاً في الاختبار، في تلك اللحظة تحديداً بلغا معاً كمال الاستسلام والتسليم، فكان الرد الإلهى بالفداء: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِي، وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ،إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ" (الصافات، الآيات: 103-111).
صدَّق إبراهيم الرؤيا، واستسلم ابنه لأمر ربه، فجازاهما الله جزاء المحسنين، لكن هل يُتصور أن ذبح إبراهيم لابنه كان هو الهدف؟ إن الابن الذبيح بالنسبة لإبراهيم ـ عليه السلام ـ هو رمز لأغلى ما يمكن أن يملك الإنسان، أقصى ما يمكن للقلبِ أن يُحب، أعظم ما يمكن للنفس أن تُضحى، لاشئ أبداً يمكن أن يساوى تضحية الأب بابنه؛ إذن ليس إبراهيم وابنه ـ عليهما السلام ـ المعنيان وحدهما بقصة الذبح، بل هما كانا يؤسسان للقضية الكبرى التي يجب أن تكون قضية كل إنسان يدين بدينهما، هي تعنيني وتعنيك وتعنينا جميعاً بالدرجة نفسها.
 في يوم النحر يذبح الحاج هديه، وهي من نسك الحج، ويذبح أضحيته، ويذبح المسلم غير الحاج أيضاً أضحيته وهي سنة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكلاهما حين يذبح الأضحية قطعاً يتذكر قصة الذبح الكبرى، ذبح الخليل إبراهيم عليه السلام لابنه. 
وقد يحكى كلٌ منا لأطفاله تلك القصة كأحد القَصص الأهم في القرآن، لكنَّ الأمر يتعدى سرد الحكايا إلى استيعاب ماوراء القصة؛ فقصص القرآن ليس الهدف منها مجرد الإعجاب أو الاستمتاع بالأحداث، فهي ترسخ لنا دعائم وركائز ينبغي أن يتمثلها المسلم؛ سواء على مستواه الفردي أو على مستوى مجتمعه.
إذن قصة الذبح تعطينا المغزى الأهم في حياة المسلم، المغزى الذي فهمه واستوعبه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه الذبيح، أن تضحى بأغلى شيء لديك إذا توجب عليك ذلك، أن تضحى بأغلى شيء لديك إذا حانت لحظة الاختبار؛ ولكن من أجل ماذا تضحى؟
من أجل ما ضحى به إبراهيم أبو الأنبياء، من أجل القضية؛ قضية الحق والعدل والبناء؛ قضية الدِّين.
إذن قصة الذبح تذكرنا دائماً أن هناك ما ينبغي أن نعيش من أجله ونضحى من أجله، تذكرنا أن إبراهيم عليه السلام كاد يضحى بأغلى مايملك -ابنه- من أجل القضية، تذكرنا أيضاً بأن القضية لازالت قائمة، وأن ركب الإنسانية التي أسس لها إبراهيم عليه السلام لازال سائراً، وأن من يعيش من أجل قضية سيأتي عليه لحظات يُختبر فيها عمق إيمانه بقضيته، وتمسكه بالمبدأ الذي ارتضاه لنفسه ورفع به صوته.
إذن قصة الذبح توقفنا أمام أنفسنا، تخبرنا بأن علينا فعل شيء ما حيال حياتنا، علينا التنازل عن بعض الأشياء التي قد تشوب إيماننا أو ربما تُثبت قوته.
ليس مطلوباً منا ذبح أبنائنا بالتأكيد، لكن علينا ذبح الكثير من العادات والأشياء والصفات التي تعوقنا عن السير في طريق الخليل ـ إبراهيم عليه السلام ـ علينا ومع كل عام يأتي فيه يوم النحر أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل، وقفة توازى في قوتها قوة تلك اللحظة التي قرر فيها إبراهيم وابنه ـ عليهما السلام ـ الانتصار على النفسالبشرية والاستسلام التام والتسليم لله سبحانه، وقفة نحدد فيها الكثير من الأشياء التي لو تنازلنا عنها، لصارت حياتنا أفضل وأكثر فاعلية وإنتاجية، أفضل لنا ولقضيتنا التي نحملها؛ لأن الانتصار على النفس هو الأهم، الانتصار عليها بمعنى ترويضها لتصبح أسمي وأنقي وأرقي.
 معركة الانتصار على النفس هي المعركة الأهم للإنسان فى حياته، ففي حين انتصر الخليل إبراهيم على نفسه في لحظة الحقيقة، لدرجة جعلته يُقْدِمُ على ذبح ابنه بتسليمٍ تام، نجد أنفسنا قد نعجز أحياناً في الانتصار على أنفسنا انتصارات صغيرة.
 إذن قصة الذبح تُغرينا بالانتصار على أنفسنا، انتصاراً يجعلنا نحقق الغاية من تلك الحياة بالأساس، الانتصار على أنفسنا في أداء عباداتنا والتزامنا بها، الانتصار في تزكية نفوسنا، الانتصار في اقتحام مجالات الحياة والتميز بها وحسن إدارة أوقاتنا، الانتصار في الارتقاء بأنفسنا وبمن نتحمل مسؤليتهم، الانتصار على أنفسنافي فعل كل ماهو خير ونافع ومفيد وترك كل ما هو ضار وعديم الجدوى، حين ننتصر على أنفسنا تلك الانتصارات التي قد تبدو صغيرة سنجد مع مرور الوقت انتصاراً كبيراً يتشكل في حياتنا، بل سنراها تسير في ذلك الاتجاه الذى أسسه الخليل أبو الأنبياء ـ عليه السلام ـ، طريق التفكير والاهتداء ثم التسليم والاستسلام لله، طريق البناء وحمل القضية.

تعليقات

إرسال تعليق