المجتمع والتلفاز والإنترنت أهم تحديات تواجهنا في تربية أبنائنا


لا شك أن تربية الأبناء من أهم وأدق وأعقد ما يمكن أن يقوم به الإنسان في حياته؛ أن تعتني ببراعم صغيرة، فتغرس فيها ما يطيب لك أن تحصد ثماره لاحقاً، وتضع لبنة فوق أخري لتنعم مستقبلاً بثمرة غراسك يانعة تسر الناظرين، فعلي قدر البذل تأتي النتيجة، وعلي قدر التعب تنعم بالراحة؛ لذا فليست تربية الأبناء بالأمر السهل أو الهين، فهي عملية شاقة طويلة معقدة تحتاج إلي تفكير وتخطيط واهتمام ومتابعة من الأبوين، وقبل ذلك كله تحتاج إلي قناعة راسخة بأهميتها وضرورة البذل في سبيلها. فأبناؤنا هم رأس مالنا الحقيقي في هذه الحياة، والاستثمار في الأبناء هو الاستثمار الأنجح علي الإطلاق.
والتربية في مضمونها وجوهرها أسمي وأهم من مجرد توفير الغذاء والكساء والترويح عن النفس (الفسح) والاحتياجات المادية، فكل هذه الأشياء هامة ولكنها تندرج تحت مفهوم الرعاية لأبنائنا وليست هي التربية بحال.
أما التربية: فهي مجموعة من القيم والمبادئ والعادات والسلوكيات الصحيحة التي يجب أن نغرسها ونبنيها  في أبنائنا بشكل تراكمي نري ثمرته وأثره علي مدار الزمن.
الطفل حين تبدأ مداركه في التفتح علي الحياة فيخطو أولي خطواته نحو عالمنا، يكون كالصفحة البيضاء الناصعة في انتظار ما تخطه أيدينا عليها، فالطفل يولد علي فطرته النقية والمجتمع من حوله خاصة الأبوين، هو من يقوم بتشكيل شخصية الطفل وبلورتها؛ فالطفل يظل طرفا مستقبلا لكل ما حوله من عادات وتقاليد وقيم وسلوكيات، ثم يبدأ في التفاعل مع هذه المكونات فيصبح الطفل ناتجا يعبر به عن شخصيته المستقلة.
وعلى قدر الاهتمام بأبنائنا خاصة في مراحل حياتهم الأولى، علي قدر ما سنجد بإذن الله نتائج ترضينا وتشعرنا بالراحة، جزاء ما بذلنا معهم من جهد. ولاشك أن تربية الطفل تخضع لتأثير العديد من الأطراف، فلا يقوم بها الأبوان وحدهما، شئنا أم أبينا، فالطفل مستقبل إيجابي لمكونات المجتمع من حوله، وعليه نجد أن المجتمع يساهم بشكل كبير في بلورة شخصية الطفل من خلال احتكاكاته اليومية ودوائر علاقاته، سواء في المدرسة أو في محيط العائلة أو الأصدقاء؛ فمع كل احتكاك بالناس من حوله يحدث التفاعل والتأثير، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، وهذا أمر طبيعي وصحي أن يحتك الطفل بالمجتمع من حوله ويتفاعل معه ويتعلم منه بالتجربة وبالصواب والخطأ، فليس من الجيد أبداً أن نعزل الطفل بحجة أننا نربيه أو خوفاً عليه من التأثيرات السلبية للمجتمع، فهذا كفيل بخلق شخصية انطوائية فاقدة لأيسر أدوات التواصل مع المجتمع.
إذن فلنترك أطفالنا للتفاعل والاحتكاك والتواصل مع المجتمع من حولنا بكافة مكوناته، وبكل ما يحويه من إيجابيات وسلبيات، وهنا يأتي دور الأبوين اللذين يجب أن يقوما بدور المرشح لكل ما يتلقاه الطفل ممن حوله في المجتمع. فالصواب هو أن يترك الأبوان طفلهما للاحتكاك بأقرانه، ثم يصوبان ما كان من خطأ، عن طريق متابعة الطفل والتحاور معه، وهذا يفيد في اكتسابه الكثير من الخبرات الحياتية، ويرسم له الطريق السليم في التعامل مع الآخرين، فيفهم ويستوعب منذ نعومة أظفاره أنه عليه أن تكون له شخصية خاصة به، فلا يقلد أحدا، ولا يكرر أخطاء الآخرين لمجرد أنه يحبهم.
نعلمه الخطأ والصواب عن طريق تفاعلنا مع أحداث يومه التي يحكيها لنا عند عودته من مدرسته، وبالطبع بدونالحوار لن نستطيع اكتشاف أو تصويب أية سلوكيات أو مفاهيم خاطئة اكتسبها الطفل من أقرانه وبيئته المحيطة.
ويجب ألا يتم ذلك في شكل صارم، وكأنه واجب يومي عليه فعله، ولكن في جو محبب إلي الطفل فيكون النقاش حوارا ممتعا بينه وبين والده أو والدته، يتجاذبان فيه أطراف الحديث في جو من المرح، مع التأكيد علي بعض الثوابت كاختيار الصديق الصالح المهذب المتفوق، ونشرح له وفقاً لسنه أن الصديق مرآة لصديقه، وأن ديننا الإسلامي الحنيف حثنا علي اختيار الصديق الصالح. ومن خلال حواراتنا اليومية هذه يمكننا التأكيد علي الكثير من المعاني الهامة، مثل: التواضع، وحب الآخرين والتعاون، وغيرها من المعاني الجميلة التي حثنا عليها ديننا الحنيف.
      ومن المؤثرات الهامة في تكوين شخصية الطفل التلفاز: فعند مشاهدة الطفل للتلفاز يتلقي الكثير من المعلومات والقناعات، سواء كانت المادة التي يشاهدها جيدة أم رديئة، وهنا يجب الحذر لأنه في غمرة انشغال الوالدين قد يقعا في خطأ كبير، وهو ترك الأبناء لساعات طويلة أمام التلفاز، سواء للتخلص من إزعاجهم أو بغرض تمضية الوقت؛ وهذا لاشك له أضرار كبيرة علي الطفل من الناحية الصحية، حيث يزيد من احتمالات زيادة الوزن والكسل وضعف النظر والانطواء، وقد يصل الأمر للإصابة بمرض التوحد لدي بعض الأطفال خاصة من هم دون الثالثة من العمر وفقاً لبعض الأبحاث.
ولست هنا بصدد الحديث عن  الأضرار الصحية للتلفاز علي أطفالنا لكن ما يهمني في هذا المقام هو إلقاء الضوء علي نقطة خطيرة جداً، وهي تلقي أبناؤنا لكمية كبيرة من المواد المتلفزة التي لا نقوم برصدها أو تنقيحها معهم؛ لتمييز الجيد من الردئ والوقوف علي حجم المفاهيم أو القيم المغلوطة التي قد تكون وصلت إليهم من خلالها؛ مما قد يؤثر علي شخصياتهم بشكل كبير مع مرور الوقت؛ لذا فمن الضروري أن نأخذ في اعتبارنا بعض الاحتياطات في تعامل أبنائنا مع التلفاز، فعلي سبيل المثال يجب تحديد وقت خاص لمشاهدة التلفاز لا يتعداه الطفل، وليكن مدة ساعة في اليوم أو ساعتين علي الأكثر علي مدار اليوم، يجب أيضاً أن نحدد مع الطفل معايير واضحة لمشاهدة التلفاز أو الجلوس إلي شبكة الإنترنت؛ فنتفق معه علي وقت محدد، ونتفق علي طبيعة المواد التي سيشاهدها ونغرس بداخله معني أن الله يرانا، ومطلع علينا في كل وقت وحال، فنعلمه مثلاً أنه إذا رأي مشهدا غير مناسب علي شاشة التلفاز، سواء في الفواصل الإعلانية أو غيرها أن يدير وجهه أو يغمض عينيه لأن الله يراه، ولا يرضي بذلك المشهد، وبالتالي يكبر الطفل علي مراقبة الله عز وجل، وليس علي ترقب وجود والديه أو غيابهما؛ فنحميه بذلك من نفسه، ومن أضرار كثيرة قد يتلقاها عبر التلفاز أو الإنترنت، ونبني معه بهذا السلوك جسورا من الثقة المتبادلة منذ نعومة أظفاره.
ويجب أيضاً أن نكون علي علم وإحاطة بطبيعة المواد التي يشاهدها أبناؤنا، فنحدد هل هي مناسبة أم لا؟ فليس كل ما يعرض في قنوات الأطفال مناسبا لهم أو متوافقا مع قيمنا ومبادئنا وتعاليم ديننا، ومن الجميل أيضاً أن نتفاعل مع أطفالنا فيما يشاهدونه، فنشاركهم المشاهدة ولو مرة أو مرتين في الأسبوع، ونتناقش معهم حول ما شاهدناه ماذا استفادوا منه وماذا لم يعجبهم ونستخلص معهم الدروس والعبر، فنكون استمتعنا بالقرب من أطفالنا وأسعدناهم وأفدناهم بنقاش ثري وعلمناهم كيف تكون لهم رؤية ورأي فيما يشاهدونه فلا يكونوا مجرد متلقي سلبي.
      ومن أخطر ما يمكن أن يفعله الوالدان هو ترك الطفل علي التلفاز وقتا مفتوحا غير محدد، يمسك بجهاز التحكم يقلب بين القنوات ويشاهد ما يناسب سنه ومالا يناسبه من أفلام ومسلسلات تشارك في تكوين الطفل وصياغة شخصيته من حيث لا ندري!
فليس من المناسب إطلاقاً أن يشاهد الطفل مواد تفتح عينيه وإدراكه علي ما يسبق عمره بمراحل كثيرة، بل علي ما يؤذيه أيضاً فتتكون في مخيلته صورة غير حقيقية عن طبيعة العلاقات الأسرية والزوجية كما يتعرض لمشاهدة كمية من المشكلات الاجتماعية  لا تتناسب مع سنه علي الإطلاق.
وإذا كان للوالدين رغبة في مشاهدة بعض المواد المتلفزة مع أبنائهم، فليكونا مطمئنين مسبقاً إلي أن هذه المواد مناسبة لأطفالهم، وأنها لن تعود عليهم بأي ضرر. فينتقون الراقي من الأفلام والمسلسلات الاجتماعية، وبإمكانهم أيضاً استخدام برامج خاصة لاقتصاص بعض الأجزاء أو المشاهد الغير لائقة.
وجدير بالذكر هنا أن المنتجات الفنية في مجتمعاتنا العربية، تحتاج إلي الاهتمام بشكل أكبر بالبعد الأسري في محتواها ومضمونها، بحيث تكون ملائمة لاجتماع كل أفراد الأسرة عليها، وبحيث تتناول الأهداف والقيم الاجتماعية التي تعود علي المجتمع بالنفع والفائدة.
وعن الإنترنت حدث ولا حرج؛ فكم من الآباء والأمهات يتركون أطفالهم منذ سن صغيرة أمام شاشات الحاسب الآلي دون قيود أو رقابة، وهذا من أخطر ما يكون. من المهم أن نترك للطفل حريته ولكن تحت رقابتنا كي لا يضر نفسه، لذا فإن ترسيخ مبادئ عامة في التعامل مع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أمر حتمي وهام. فنحدد مع أبنائنا وقتا للجلوس إلي الإنترنت حتى يستطيعوا ممارسة باقي نشاطات حياتهم بشكل متوازن.
   ويجب أن نرشدهم أيضاً إلي أن أي تقنية هي سلاح ذو حدين يجب استخدامه فيما ينفع ويعود علينا بالفائدة. فيكون جلوسهم إلي الإنترنت للاستفادة أو المذاكرة أو الترويح عن النفس ببعض الألعاب أو الصور أو ما شابه، وهنا نكون قد علمناهم كيف أن الوقت ثمين وغالي فلا نهدره أبداً فيما لا يفيد، وكما ذكرت آنفاً فإن غرس مراقبة الله عز وجل في نفس الطفل منذ صغره أمر ضروري جداً يقيه الكثير من المخاطر، ويجعل له من نفسه رقيبا علي تصرفاته وسلوكه، فمراقبة أبنائنا لله عز وجل كفيلة بأن تحميهم من الانزلاق في تصفح المواقع الإباحية خاصة في مرحلة المراهقة أو من الدخول في الشات وتكوين علاقات مع شباب وفتيات مجهولين.
 إذن حصن طفلك بتعليمه مراقبة الله عز وجل في كل أحواله وهذه المراقبة كفيلة بحفظه بإذن الله في غيابك وحضورك، فلتجعل شعاره الدائم: الله ناظري، الله شاهدي، الله مطلع علي.
إذن مما سبق نخلص إلي عدة نقاط هامة يجب أن تكون واضحة تماماً أمام أعيننا في رحلتنا لتربية أبنائنا:
1-عزل الطفل عن المجتمع ليس الحل لحمايته من أي تأثيرات سلبية، لكن الصواب هو دمجه في المجتمع، وتشجيعه علي تكوين علاقات وصداقات مع أقرانه، مع إرساء معايير واضحة لاختياره ودعمه الدائم وتصويب المفاهيم وتوضيح الخطأ والصواب أولاً بأول، مما يؤدي إلي اكتساب الطفل لخبرات حياتية هامة ومجموعة من القيم والمبادئ والسلوكيات القويمة التي تستمر معه بإذن الله طوال حياته.
2-حث الطفل علي تنظيم وقته والتعامل مع التلفاز والإنترنت علي أنها أسلحة ذات حدين، وأنه يجب استخدامها فيما يعود عليه بالنفع مع إرشاده إلي معايير وضوابط الاختيار فيما يشاهده علي التلفاز أو الإنترنت.
3- غرس قيمة مراقبة الله عز وجل في جميع أفعاله، خاصة عند مشاهدة التلفاز أو تصفح الإنترنت بما يحويانه من مواد عديدة ومتنوعة.
4- الحوار ثم الحوار ثم الحوار هو صمام الأمان لتربية أبنائنا ولتكوين علاقة فعالة معهم نوجههم من خلالها بالحب والتفاهم والصداقة.

تعليقات