أبشرتموني علي أن مسني الكبر؟


قالت لي فى حيرة: أشعر أننى صرت عجوزاً؛ فقدت حيويتي وقدرتي على المرح والانطلاق، لم أعد كما كنت سابقاً، باتت حياتي روتينية، وأصبحت فاقدة لطاقتي.
لم أتعجب كثيراً من كلامها، فهو يعبر عن حالة شعورية عند الكثيرين، لاتلبث أن تتحول إلى قناعة وسلوك وتصبح جزءاً من حياتنا ونمط سائد بين الكثيرين منا،لكن كلامها عاد بي للوراء وأعاد لذاكرتي نموذج آخر مختلف؛حيث تذكرت إحدى زميلاتي بالجامعة، والتي كانت ترد على كل من يهنئها بيوم مولدها مرددة ما قاله إبراهيم عليه السلام للملائكة: "أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ"الحجر54.
كانت تستخدم هذه الجملة المقتبسة من القرآن الكريم في تلقائية ومرح، وكنا نضحك من تعبيرها هذا كثيراً، ونتعجب في الوقت ذاته، وكانت هي تشرح لنا وجهة نظرها بسهولة، موضحة أن كل عام يتذكر الإنسان فيه يوم مولده، إنما هو اختزال من إجمالي عمره، يقربه عاماً من أجله وقبره، ويبعده عاماً عن دنياه وحياته العامرة.
قد يتصور القارئ أن هذه الزميلة كانت بائسة أو يائسة أو زاهدة في الحياة، لكن على العكس تماماً فقد كانت شعلة من النشاط والحيوية والمرح والاجتهاد. متفوقة في دراستها، متميزة في تخصصها، محبوبة من الجميع، تحظى باحترام أساتذتها قبل زملائها، ولها العديد من النشاطات الطلابية والاهتمامات العامة والخاصة، فضلاً عن كونها قارئة نهمة وطالبة علم مجتهدة. ولعل الصفات السابقة كانت هي دافعها الأساس؛ لأن تحسب لعمرها بدقة، وتحرص على الاستفادة من أيامه وساعاته، وتجتهد بأن تعمر آخرتها بحسن العمل والاجتهاد في دنياها.
ولعل من الظواهر اللافتة فى مجتمعاتنا العربية: شعور البعض بالتأزم والتحسر على مافات من أيام الشبابكلما تقدم بهم العمر. فقد تجد من هو في العقد الثالث أو الرابع من عمره (وهي بالمناسبة قمة النضج) وقد بات يشعر بأنه صار مسناً كبيراً، فيحدثك بروح من فاته قطار الشباب، وبات ينتظر مرحلة خريف العمر، أو من تحدثه عن طموحات ومشروعات مستقبيلة تناسبه وتملأ وقته، فتجده يتحدث عن أنه فات وقت هذه الأحلام والتى باتت تناسب الشباب (الذين لايعد نفسه محسوباً عليهم)، وقد يحدثك بعضهم عن روحه التي صارت ذابلة بفعل تقدم السن (وهو لم يتجاوز عقده الثالث بعد).
أو من بات يجد صعوبة في اللعب مع أطفاله، أو التفاعل والجرى والمرح معهم للسبب نفسه، مظاهر كثيرة ومتعددة لمشكلة واحدة، وآفة خطيرة تهدد السلام النفسي للإنسان، وتؤثر بشكل كبير على حيويته وعطائه، وشعوره بالإنجاز في حياته فضلاً عن الاستمتاع بهذه الحياة.
قد تكون ثقافتنا الشرقية وعاداتنا المجتمعية الموروثة جزءاً من هذه الظاهرة، وسبب أساس من أسباب تلك المشكلة، وقد تكون طبيعة الشخص وصفاته وعقليته وأسلوب تفكيره هي السبب.
وقد تكون العوامل الخاصة المحيطة به كطبيعة عمله وعائلته وأصدقائه، وقد يكون السبب خليط من كل هذا وذاك.
فالطبيعي والذي لاخلاف فيه أن كل مشكلة تخضع للعديد من المؤثرات، وتظهر كنتيجة طبيعية لتلك المؤثرات، لكن حل المشكلة وعلاجها هو إرادة شخصية وقرار شخصي؛ فلن يستطيع أحد أن يبث في إنسان الأمل والتفاؤل نيابةً عنه، ولن يستطيع أحد أن يجعل إنساناً يفكر بشكل إيجابي إن أراد هو عكس ذلك.
ليس عيباً أن يتقدم الإنسان في العمر، فذلك أمر طبيعي ومنطقى تماماً، وهي سنة الحياة، وفطرة إلهية فكل مخلوق له بداية ونهاية، لكن من غير الطبيعي وغير المنطقي أن يظل الإنسان حبيس تلك الفكرة، فيرتبط لديه ذهنياً التقدم في العمر بذبول النفس وأٌفول الروح، فينعكس ذلك سلباً على حيويته وتفاؤله وسعيه فى الأرض بالعمل والإنجاز وتحقيق الأحلام، والوصول إلى أبعد مدى من النجاح وتعمير الحياة والذى هو أصل الحكمة من خلق الله عز وجل للبشر؛ فالله عز وجل خلقنا لغاية وهدف وهو بسهولة إعمار الأرض. إذن لايليق بمن هو خليفة لله في أرضه أن يكون غارقاً في الإحباط والتشاؤم وذبول الروح، فالعطاء والإنجاز غير محدودين بعمر، والنجاح ليس مرهوناً بمرحلة الشباب أو الشيب.
 بالطبع لكل مرحلة عمرية سماتها وخصائصها التي تؤثر حتى في الشكل الخارجي للإنسان. لكن ماأقصده هنا وأتحدث عنه هو سمات الروح وانطلاقها والشعور النفسي بالحيوية والإنجاز والطموح، وكلها أمور لاترتبط بالسن، لذا فمن العجيب أن يتحسر أبناء الثلاثين والأربعين على شبابٍ فاتهم، وهم لازالوا في أوج العطاء وريعان الشباب، لقد بعث الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عندما أتم الأربعين، ولايخفى على أحد ما كان ينتظره من تعب ومشقة وسهر وسفر وترحال وهجرة وجهاد وجهد متواصل استمر عشرين عاماً، فأقام الله به الحجة علينا،  ليس فقط في تبليغ الدين الخاتم، ولكن في الهمة والعمل وإشراق الروح، فلم يعد لأي منا مجال ليتعلل بأي عذر يدفعه للإحباط أو الوقوف في محله دون حراك.
ولدينا كمسلمين دوافع كثيرة تدفعنا للعمل والإنتاج واستمرار الحياة؛ فنحن موقنون تماماً أن الله عز وجل لم يخلقنا عبثاً، بل خلقنا لغاية وهدف هو إعمار الأرض، فنحن خلفائه سبحانه في أرضه لذا فأي نجاح نحققه في مجالات الحياة المختلفة هو إتمام لجزء من رسالتنا التي كلفنا الله بها، ونحن نعلم يقيناً أيضاً بأننا نعمل في الدنيا لنعمرها، ونؤدى دورنا فيها ثم نُرد إلى خالقنا لننعم بحياةٍ أبدية خالدة في جنات النعيم.
إذن السعى والعمل في الدنيا له وجهان فى عقيدتنا: وجه دنيوى، يتمثل في إعمار الدنيا وحسن الاستخلاف. ووجه أخروى يتمثل في عيش حياة أبدية في جنات الخلد، وهذا دافع لمن لادافع له، وضوء لمن تقطعت به السبل، وأمل لمن ضاق عليه صدره.
إذن نحن لدينا الدليل الذي يشرح ويوضح لنا الغاية والوسيلة والطريق، ورغم ذلك فقد يتوه البعض ويضلون الطريق، لكن العجب كل العجب من حضارات غربية تجد لديها العمل الدؤوب والإتقان والاجتهادوالتفاؤل واستنفاذ الطاقة فى إعمار الدنيا وتهيئتها وتسخيرها لحياتهم، على الرغم من أن عملهم دنيوى بحت، للاستمتاع الحسي فقط، هم يعملون ويجتهدون ويتقدمون من أجل أن يعيشوا حياة جيدة ممتعة، يأخذون فيها من المباهج والملذات قدر مايستطيعون.
يحافظون على البيئة ويتقنون العمل ويحترمون القانون فقط من أجل حياة دنيوية سعيدة وممتعة؛ هم بالطبع لايعملون ويتقدمون من أجل هدف الاستخلاف فى الأرض؛ لأنهم لايؤمنون سوى بالمادة وحدها، وأيضاً هم لايعملون ويتقدمون من أجل بلوغ جنة الآخرة؛ لأنهم بسهولة لايؤمنون بوجود حياة أخرى. هم فقط يؤمنون بحياة واحدة هي الدنيا التي يعيشونها الآن، ورغم هذا فلديهم دوافع قوية جداً للاستمرار والعمل والأمل والتفاؤلبالمستقبل. ولقد رأيت نماذج كثيرة لأمهات غربيات غير مسلمات غاية في الدقة والنظام والحيوية والاجتهاد؛ حياتهن تسير وفق جداول منظمة، فتجد الواحدة منهن تبدع في ترتيب منزلها وتنظيم ميزانية بيتها، والاعتناء بأطفالها وتعليمهم، فضلاً عن اهتمامها بنفسها وامتلاء وقتها بالكثير من الأنشطة الخاصة بها، وبإنجازها الشخصيدون الإخلال بواجباتها الحياتية تجاه زوجها وأطفالها وبيتها، كل ذلك يفعلنه بمنتهى الاستمتاع ودون الاستسلام للشعور السلبي بتقدم العمر.
إذن نحن كمسلمين أولى بأن يكون لدينا من الأمل والتفاؤل والاجتهاد ما يجعلنا نشعر دائماً بالحيوية والتألق والسلام النفسي، بل والإنجاز الذي وحده سيعطينا دافعاً لتجاوز إحباطاتنا والتحديات المحيطة بنا.
دعونا ننجز بغض النظر عن العمر، ولنتخلص من موروثاتنا المجتمعية السلبية التي تشدنا إلى الأرض وتثبط عزائمنا وتعوق أحلامنا، ليقل كل منا لنفسه لابد أن أُنجز؛ أُنجز من أجل قضيتي، ومجتمعي ووطني وديني، أُنجز من أجل نفسي لأنني أستحق الأفضل، أُنجز من أجل مهمتي وتكليفي الإلهي بالاستخلاف في الأرض وإعمارها، أُنجز من أجل آخرتي التي أطمح أن تكون جنات الفردوس.
دعونا ننجز للدرجة التي تجعلنا نحسب لأعمارنا تقدمها، خوفاً من فوات تحقيق أهدافنا التي نسعى إليها بقوة، ليس تحسراً على مافات، ولكن تطلعاً لبذل ما في الوسع للعمل والإنجاز، وحينها فقط قد يكون من المسموح أن نرد على من يذكرنا بيوم ميلادنا، كما كانت ترد زميلتي: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)الحجر54.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)قال الله تعالى: "وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ، إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ، قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ" سورة الحجر"51ـ56.

تعليقات