هنا تسكب العبرات


في حجة الوداع استقبلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَالحجرَ، فاستلمَهُ، ثمَّ وضعَ شفتيْهِ عليْهِ يبْكي طويلًا، فالتفتُّ، فإذا هوَ بعمرَ يبْكي، فقالَ: "يا عمرُ هَهنا تُسْكبُ العبَراتُ" أي عند الحجر.(رواه ابن ماجه وغيره، وضعفه عدد من العلماء منهم الألباني، وصححه أحدهم وهو السيوطي). وإن كان الحديث ضعيفا، ولكن معناه صحيح، فالحاج يبكي ويتأثر في عدة أماكن في الحج، خاصة عند انكساره وذله وخضوعه بين يدي الله تعالى وهو يعترف بذنوبه، ويندم على فعلها، ويدعو الله تعالى بصدق وإخلاص أن يغفر له، وأن يتقبل طاعته، و يجعل حجه مقبولا، خاصة وأن في مناسك الحج أكثر من مكان لقبول الدعاء(1)
 فعند الحجر الأسود، تسكب العبرات! ياله من تعبير بليغ وتوصيف دقيق. فيليق بمن وقف بين يدي الله تعالى، في بيته الذي وضعه للناس في أطهر بقعة علي وجه الأرض، وفي أداء ركن الإسلام الخامس أن يتأدب في حضرة ربه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه، ويبكي عليها، ساكباً عبراته لعل دفقات دموعه تغسل ما كان، وتطهره من رجس أصابه، فيعود من بعدها كما لم يكن كطفل ولدته أمه تواً نقيا دون ذنوب ولا خطايا، كما قال رسول الله e: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" متفق عليه.
     هذا حال من أكرمه الله بالحج هذا العام، فبدأ بالاستعداد والتهيؤ لرحلة العمر؛ يجمع القليل من متاع الدنيا، ويترك أهله وولده وماله أن لبيك اللهم لبيك، مولياً وجهه شطر مكة المكرمة، قاصداً بيت الله الحرام، ليطوف طواف القدوم، ثم ينخرط في المناسك واحداً تلو الآخر، تاركاً ورائه دنياه بكل ما تحوي من تفاصيل ومغريات وجواذب تشده إلي الأرض. فالآن فقط استطاع كسر قيده الأرضي لتحلق روحه في سماء الكون الذي ما يفتر عن التسبيح لخالقه.
هنا فقط ينسي كل هم أو كرب، أو مشكلة، ويمتثل لأمر ربه، يتذكر ذنوباً أثقلته، فيبكي حاله ويتذكر رحمة خالقه، فيستبشر بالمغفرة؛ فلم يأت الله به إلي كعبته المشرفة، إلا كرماً وتلطفاً ورحمة وحاشاه سبحانه أن يرده خائباً.
أما نحن ممن لم يكتب لنا الحج هذا العام، فلعل لنا رزق آت وحج مكتوب؛ لكن ينبغي لنا أن نعرض قلوبنا وأرواحنا علي نفحات الله، فنتفكر في حكمة الحج ومناسكه ومشاعره، وندعو الله أن ييسره لنا، وأن يمن علينا باستكمال أركان ديننا بأداء الركن الخامس؛ فإن كنا قد انقطعنا عن البيت فلم يكتب لنا زيارته، فلا يجب لنا أن ننقطع عن رب البيت سبحانه، وإن كانت الكعبة و الحجر الأسود من مواضع سكب العبرات، فذنوبنا وتقصيرنا في جنب الله هما مناط التوبة والبكاء ندماً.
      فلعل منقطع بجسده عن البيت، لكنه محلق بروحه فوقه. إذن هو موسم مبارك من مواسم الطاعات يغتسل الحاج من ذنوبه، مع اغتسال الإحرام وينسلخ من خطاياه وتقصيره مع انسلاخه من ملابسه واستبدالها بالبياض، ويخلع عنه جواذب دنياه، مع هتافه من القلب لبيك اللهم حجاً.
     ولعل في الحرمان ما يزيد الشوق ويشعله. ولعل في الانقطاع عن البيت ما يقوي الرغبة ويصفي النية، فيهيء الله للعبد من الأسباب ما يعينه علي اللحاق بركب الطائفين العاكفين الساعين؛ فلنتوجه بقلوبنا شطر المسجد الحرام، مستحضرين ذنوبنا تائبين منها، مجتهدين في التعرض لسحائب رحمة الله في هذه الأيام المباركات، فلعل توبة صادقة نستجلب بها من الرحمات ما لا نشقي بعده أبدا، ولعل دمعة ندم علي الذنوب والتقصير تغسلنا من ذنوب أثقلتنا إلي الأرض، فمنعت الروح من التحليق في سماء العبودية لله جل وعلا، فلنجتهد في تطهير النفس بالتوبة، والإكثار من الطاعات، فيجد الله تعالى لنا مع كل منسك للحجاج طاعة تقربنا إليه سبحانه، لعلنا نلحق بعبرات الفاروق عمر رضي الله عنه حين سكبها عند الكعبة ففاضت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  (1) وقد أوصل بعض العلماء مواضع استجابة الدعاء في الحج إلى خمسة عشر موضعا، فيبكي الحاج المخلص المخبت الخائف الذليل بين يدي خالقه عند الحجر الأسود، وعند الطواف (سواء طواف القدوم، أو طواف الركن الزيارة الإفاضة أو الوداع، وعند الملتزم بعد انتهاء الطواف، وعند باب الكعبة، ومع أداء ركعتين خلف المقام، ومع شرب ماء زمزم، وعند الصفا، والمروة، وعند السعي بينهما، وفي منى يوم الثامن، وفي عرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وعند الوصول لمزدلفة، بعد الانصراف من عرفة، وعند المشعر الحرام بعد فجر العيد، وعند رمي جمرة العقبة يوم العيد (العاشر)، وفي اليوم الحادي عشر، عند رمي الجمرة الصغرى، و رمي الجمرة الكبرى، ثم عند طواف الوداع، وقبل كل ذلك بعد استعداده بالإحرام، ومع التلبية، لبيك اللهم لبيك، وهكذا تسكب العبرات في عدة أماكن من شعائر الحج.

تعليقات